منهج التأويل (مقدمه)
- ashrefsalemgmn
- Oct 30, 2024
- 5 min read

هناك العديد من الأسئلة حول كيفية نزول القرآن، وكذلك الكثير من الحجج التي تدعم أو تعارض كونه كلام الله. يعتبر القرآن معجزة، وكثيرون يعتقدون أن مصداقيته تعتمد بالكامل على طريقة حفظه — السلسلة التي تناقلها الناس منذ نزوله. ولكن هل هذا مبرر؟
عندما يُطرح السؤال؛ لماذا يعتبر القرآن معجزةً، نجد أن الاستنتاجات المطروحة لا تستند فعلاً إلى النص نفسه، هيكله، تركيبته، تشكيلات معانيه، دقته اللغوية وغيرها، بل إلى الظروف التاريخية التي نزل فيها. أي إلى الموسوعة الضخمة التي أُسست حول القرآن، من سيرة وأحاديث وتفاسير وغيرها التي جمعها وأنتجها كبار العلماء. فعلى الرغم من حتمية ظهور ثقافة منهجية وأدبية حول كتاب الله وأهميتها كوسيلة للتعرف على الإسلام، كما هو الحال مع أي عمل أو سلسلة أدبية مؤثرة، إذ تُنشأ حولها ثقافة من نوع أو آخر، نرى أن هذا قد يؤدي إلى نتيجة عكسية، إذ يصبح هذا الفائض المعرفي تراكمًا يحجب الكتاب عن أسئلة جوهرية تستدعي الطرح والتأمل، أسئلةٌ، رغم ما يبدو فيها من تجاوز وتشكيك، تمس لبّ فهمنا لطبيعته الإعجازية. وبذلك يجب أن تُطرح.
تبرز أمامنا معضلتان جوهريتان، أولهما ما يُعرف في النقد الغربي الحديث بالتواكبية وهي نزعة أو منهج يسعى إلى المواءمة بين ما يرد في النصوص المقدسة كالقرآن والإنجيل وبين نظريات العلم المعاصر. فنرى، على سبيل المثال، محاولات إعادة تأويل الرؤى الكونية في النص القرآني لتنسجم مع نظرية الانفجار العظيم، أو تطويع السرد القرآني حول خلق الإنسان ليواكب - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - استقراءات الأنثروبولوجيا الحديثة.
إن النجاح الباهر للمنهج العلمي الحديث - الذي قامت عليه الحضارة العصرية بكل ما حققته من تقدم في الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا - قد أدى إلى انحياز فكري يكاد يكون تلقائيًّا نحو مسلمات العلم الحديث، بكل ما فيها من فرضيات وظنيات، بل وحتى مغالطات. هذا الانحياز، وإن كان يعكس التفوق الظاهر للمنهج العلمي، إلا أنه يؤدي إلى معضلة التواكبية التي لم يسلم منها حتى فهمنا للقرآن الكريم. فإذ بالقارئ المتأثر بالرؤية الكونية المعاصرة يؤوّل وصف الله للنجوم بالمصابيح على أنها أجرام مشتعلة في أعماق الكون تطابقًا مع ما تصفه كتب الفلك الحديث. وهذا، في حقيقته، نمط من التواكبية غير الواعية والتي لا تعي أن نجاح العلم الحديث، مهما بلغ، لا يجعل من نظرياته مفتاحًا لفهم النص القرآني أو معيارًا لإثبات صحته.
الانبهار المبالغ فيه من العلم الحديث، والاستناد عليه كآلية للفهم المحضي لظواهر الكون وبالتحديد لفهم واستنباط القرآن لا يختلف على نحوه إشكالية من الاعتماد البحثي والآلي على التراث كمنهج، ففي كلا الحالتين يتم طمس عامل جوهري، عامل بُني على أساسه القرآن بالشكل الذي نراه. ما أقصد هو أن القرآن يحوي بذاته وفي أصله آلية وكيفية فهمه واستنباطه، تمامًا كما تحوي حزمة مفروشات إيكيا تعليمات تشرح كيفية تركيبها.
الاستعارة والاستقراء
الاستقراء هو منهج في البحث العلمي والمنطق يعتمد على دراسة الحالات الفردية أو الجزئيات للوصول إلى استنتاج عام أو قاعدة كلية. بمعنى آخر، يبدأ الاستقراء من ملاحظة أمثلة خاصة ومتعددة، ومن ثم يُستخدم لتكوين قاعدة عامة تنطبق على جميع الحالات المماثلة. يتم استخدام هذا الأسلوب في العلوم الطبيعية والاجتماعية للتوصل إلى نظريات أو قوانين بناءً على المشاهدات المتكررة.
الاستعارة هي أسلوب بلاغي في اللغة يُستخدم لإبراز المعنى أو الفكرة من خلال تشبيه شيء بشيء آخر بشكل غير مباشر، بحيث يُنقل معنى كلمة من مجالها الأصلي إلى مجال آخر لخلق صورة جمالية أو لتوضيح المعنى بشكل أعمق. على سبيل المثال، عندما نقول "أسد" لوصف شخص شجاع، فإننا نستعير صفة الشجاعة من الأسد وننقلها إلى الشخص.
ثمة منهج واحد وآلية واحدة لاستنباط معاني القرآن، وهي آلية الاستعارة. فلنأخذ لفظ "الرحمن" مثالًا: إذ يتطلب فهم هذا اللفظ تتبع استخداماته في القرآن بكافة سياقاتها وعواملها وظروفها المختلفة. فتنوع هذه السياقات لا يعني تعددًا في المعنى الأصيل للكلمة، بل يكشف عن تكيف هذا المعنى الواحد في بيئات مختلفة، مما يجلّي لنا حقيقته.
وهذا المنهج في فهم ألفاظ القرآن يماثل ما نستخدمه في إدراك حقائق الأشياء في الطبيعة - وهو ما يُعرف في علم النفس بمبدأ التباين، الذي يمثل أساسًا معرفيًا ونفسيًا في آن واحد.

نستخدم الاستقراء في تتبع او استقصاء المفهموم, والاستعاره في فهم تغيراتها وانماطها واستخداماتها المختلفه في ظل هذا التتبع, والتباين هي الالية التي تظهر لنا معنى الكلمه نسبتة لخلفية سياقها, فالسياق يساهم في مضمون الكلمه ومعناها الموضوعي, ,والمعنى هو نتيجة هذا الازدواج. فهنا تكون 'الرحمه' مسعى الاستقراء, وتقصينا للكلمه في السياق القراني يفيد ذلك, اما بالنسبة للاختلافات النحوية للكلمه (الرحمن, الرحيم, رحمهم, الخ) هي بمثابة استعارات او تكيفات للمتطلبات السياقية المختلفه. يظهر هنا دور التباين, فالمعاني المختلفه للرحمه تعتمد على السياقات المختلفه. نرى هنا منظومة ثلاثية الابعاد يكتمل شروط التاويل.
التباين والتجريد

تأثير التباين هو ظاهرة نفسية تَحْدُثُ عندما يؤثر السياق أو الخلفية المحيطة على إدراكنا لشيء ما، مما يجعل هذا الشيء يبدو أكثر وضوحًا أو اختلافًا مقارنةً بما حوله. هذا التأثير يمكن ملاحظته في مختلف جوانب الحياة اليومية، مثل الألوان، والأحجام، والسلوكيات، والهوية. على سبيل المثال، عندما يرتدي شخصًا قميصًا أبيض تحت سترة داكنة، يظهر القميص أكثر إشراقًا بفضل الخلفية الداكنة. في السياقات الاجتماعية، قد يبدو الفرد أكثر جاذبية أو تميزًا عندما يكون محاطًا بأشخاص يمتلكون سمات متناقضة معه. في مجال التسويق، يتم عرض المنتجات بجانب سلع أغلى أو أرخص لجعلها تبدو أكثر جاذبية للزبائن.
إلى جانب ما ذكر، يُعارض عالم المنطق الألماني هرمان لوتزه النهج التقليدي للتجريد، حيث يرى أن مسار الفكر عند تكوين المفاهيم العامة لا يقتصر على تجاهل الخصائص الجزئية فقط دون الحفاظ على ما يعادلها. على سبيل المثال، عند صياغة مفهوم "المعدن" من خلال تأمل في مشتقاته، كالذهب والفضة والنحاس والرصاص، لا يمكننا نقل خصائص هذه المعادن الفردية مثل لون الذهب أو لمعان الفضة إلى المفهوم المعدني المجرد، فهو مجردٌ بالمعنى الحرفي. وفي المقابل، من الخطأ أن نتخلص من جميع الخصائص الجزئية دون تعويضها.
"التجريد هو الطريقة التي تُستخدم لاستخلاص المعنى العام أو الشامل من الأمور الخاصة أو التفاصيل الفردية. وفقًا للنظرية التقليدية، يُفترض أن يتم تجاهل الاختلافات بين الحالات الخاصة والتركيز فقط على العناصر المشتركة بينها. ولكن، عند تطبيق هذا المنهج، نجد أن هذا لا يعكس العملية الفعلية للتفكير. على سبيل المثال، المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس والرصاص تختلف في اللون والبريق والوزن والكثافة، ولكن لا يمكننا تعريف مفهوم "المعدن" فقط عن طريق استبعاد هذه الفروقات دون تعويض. إذا قمنا بذلك، فسيفقد مفهوم "المعدن" معناه، ولن نصل إلى تعريف كافٍ وشامل يجمع بين هذه الخصائص المتنوعة بشكل منطقي ومنسق"
هيرمان لوتزه المنطق (الجزء 1, الفصل 1, القسم 23) Hermann Lotze Logic (Part 1, Chp1, Sec23).
بعبارة أخرى، يقول لوتزه إنه عند التجريد والتعميم، يجب أن نحافظ على مستوى معين من الخصوصية أو نحتفظ بما يعادل تلك الخصائص الجزئية، كاستخدام المتغير في المعادلات الرياضية أو الفيزيائية، فالمتغير أداة تمكننا من التعميم مع الحفاظ على نسبة ما من الخصوصية. فعندما نكتب س في معادلة ما، فإننا نشير إلى قيمة محددة لكنها غير معروفة، وبهذا نجمع بين إمكانية التطبيق العام وخصوصية الحالة الواحدة. على سبيل المثال، لا يمكننا اختزال مفهوم "المعدن" إلى مجرد القول إنه ليس أحمرًا أو أصفرًا، ولا صلبًا أو لينًا. بدلًا من ذلك، ينبغي أن يكون هناك فهم عام يتضمن أن المعدن يتمتع بدرجة معينة من الصلابة واللمعان والكثافة، دون تحديد الشكل الدقيق الذي يتخذه في الحالات الفردية.
المتغير
في الرياضيات، المتغير هو رمز يُستخدم لتمثيل قيمة غير معروفة أو قابلة للتغيير ضمن معادلة أو تعبير رياضي. المتغيرات تُستخدم لتسهيل صياغة المعادلات وحلها، حيث يمكن أن تأخذ أي قيمة ضمن مجموعة معينة من القيم، مما يجعلها أدوات أساسية في التعبير عن العلاقات الرياضية وتحليلها.
س + 5 = 10
في هذه المعادلة (س) يمثل قيمة غير معروفة. لحل المعادلة، نحاول إيجاد قيمة (س) التي تجعل المعادلة صحيحة
عند تجريد هذا المفهوم وإعادة تطبيقه في السياق المعرفي عمومًا، والسياق القرآني خصوصًا، نجد أن المعنى الحقيقي للكلمة ينكشف من خلال عملية التتبع والملاحظة هذه. وعليه، يصبح فهم القرآن ممارسة في تتبع رحلة كلماته - متابعتها كما نتابع مسار النهر عبر فروعه وروافده المختلفة. فنقوم بفحص كل كلمة في جميع سياقاتها القرآنية، مراقبين بعناية تحوّلاتها الصرفية، وتشكيلاتها النحوية، وتنوعاتها الدلالية. وكما بيّن لنا لوتزه أن مفهوم "المعدن" لا ينبثق من مجرد تجريد كل الخصائص المحددة، بل من فهم كيفية ارتباط الأشكال المعدنية المختلفة بالمفهوم الأساسي وتعبيرها عنه، فإننا نفهم المفاهيم القرآنية من خلال ملاحظة كيف يحافظ المعنى الجوهري على نفسه تكيفًا مع السياقات المختلفة. فكل كلمة تحافظ على جوهرها الدلالي الأساسي حتى وهي تتدفق عبر أشكالها النحوية والتطبيقات السياقية المختلفة - "مثلما نجد المعدنية حاضرة في الذهب والفضة والنحاس، على الرغم من تنوع صورها وخصائصها". تكشف هذه العملية كيف أن كل كلمة، رغم مرونتها في التعبير، تظل متماسكة عبر استخداماتها المتنوعة.
تابعونا الي الجزء الثاني....
Comentários